المرأة عورة، ثورة، أم درّة؟ | قراءة في الاستعارة

عدسة نينا منادهِر

 

الفَهْم الاستعاريّ

حسب إحدى الباحثات الرائدات في مجال الاستعارات والإدراك (جريبر، 1993)؛ فإنّنا نتصوّر ونفهم الواقع، ولا سيّما الواقع السياسيّ، بصيغة صوريّة متمثّلة لغويًّا بمنظومة الاستعارات؛ فعلى سبيل المثال نحن ندرك مفهوم الدولة بمساعدة استعارة مثل «البيت»، والأمّة بمساعدة استعارة مثل «العائلة»، والحياة بمساعدة استعارة مثل «الرحلة» وغيرها.

من هنا، في حقل العمل السياسيّ الّذي يهدف إلى تصميم الرأي العامّ والسيطرة عليه، ثمّة أهمّيّة كبرى للبلاغة والاستعارات. استعارة دقيقة وناجعة تدخل العقول وتستوطن في الذاكرة؛ لتؤدّي أحيانًا إلى قلب موازين القوّة بين معسكرين متناحرين (انتبهوا إلى الصياغة المجازيّة في السطر الأخير، وُصِفَت الاستعارة على أنّها «تدخل» العقل و«تستوطن» به).

يدّعي بعض المنظّرين أنّ السبب لنجاعة الاستعارات في مجال الإقناع السياسيّ، أنّ الواقع مُرَكَّب بدرجة كبيرة تجعل الفرد يلجأ إلى طرق تبسيطيّة لفهم هذا الواقع...

يدّعي بعض المنظّرين أنّ السبب لنجاعة الاستعارات في مجال الإقناع السياسيّ، أنّ الواقع مُرَكَّب بدرجة كبيرة تجعل الفرد يلجأ إلى طرق تبسيطيّة لفهم هذا الواقع، ولتبسيط المفاهيم المجرّدة غير المحسوسة (مثل الدولة، الحكم، الديمقراطيّة، الفساد...)، نحتاج إلى تشبيهها بظواهر أو أجسام محسوسة قريبة من واقع هذا الفرد، وهذا التشبيه هو تعريف الاستعارة؛ الكلام عن شيء ما بأدوات لغويّة مستعارة (ليكوف وجونسون، 1980).

لكنْ ثمّة ثمن لاستخدام الاستعارات في الحقل السياسيّ، فبالرغم من أنّها مُقْنِعَة وناجعة، لكنّها قد تكون مضلّلة. في الاستعارة فرضيّات خفيّة كثيرة، يميل المتلقّي إلى قبولها ضمنًا، وبناء صورة متخيَّلة غير دقيقة للواقع بمساعدتها. الصورة المتخيَّلة هذه قد تتحكّم بالمنطق الملازم لعرض القضيّة أو الإشكال السياسيّ، وكذلك للمنطق، من وراء حلّها. يدّعي بعض الباحثين (انظر: ميلر، 1979) أنّ استخدام استعارة لعرض قضيّة سياسيّة شائكة، كثيرًا ما لا يُنْصِف عرضها بشكل موضوعيّ، بل إنّه يخفي بين طيّاته رموزًا لحلّ معيّن مرغوب، على يد صاحب الأجندة الطارح للاستعارة العينيّة.

المثال الأساسيّ الّذي أريد مناقشته في هذه المادّة هو تسلسل الاستعارات وتطوّرها ومعانيها، في النقاشات التاريخيّة والآنيّة عن دور المرأة في شؤون العامّة، ممّا يشمل دورها في الاقتصاد والأسواق، ودورها في السياسة والقيادة والإمامة وغيرها.

 

«الدرّة المصونة والجوهرة المكنونة»

سأدّعي أنّه من أكثر الاستعارات شيوعًا في المرحلة الحاليّة من التاريخ؛ لوصف دور المرأة أو مكانتها في الخطاب الإسلاميّ الحاليّ، وأخصّ الإسلام السلفيّ التقليديّ، وكذلك غالبيّة حركات الإسلام السياسيّ في المنطقة العربيّة، هي استعارة «الدرّة المصونة والجوهرة المكنونة». ما أصول هذا التشبيه؟ وما السيرورة السجاليّة، الّتي أدّت إلى الوصول إلى تشبيه المرأة بالأحجار الكريمة المحميّة والمخفيّة عن الأنظار؟ سأحاول الإجابة عن هذه الأسئلة باستعمال منهجيّة جينيولوجيّة (علم الأصول)، الّتي تُوْصَف بالحفريّات الأركيولوجيّة في الثقافة والأدب والتاريخ.

لتحليل التسلسل التاريخيّ لسياق استعمال الاستعارة المرأة هي «كالدرّة المصونة والجوهرة المكنونة»؛ يمكن البدء برصد استخدام لفظ «الدرّة المصونة» أو «الجوهرة المكنونة» في تاريخ العرب. بداية، في القرآن الكريم، اسْتُخْدِمَ لفظ «اللؤلؤ المكنون» لوصف الحور العين، والغلمان، والكتاب (أي القرآن نفسه) (مثلًا: الواقعة: الآيتان: 22-23، أو الطور: الآية: 24). وبهذا؛ لم تُوصَف النساء أو المؤمنات باللؤلؤ المكنون في المصادر القرآنيّة أو في التفاسير القديمة، وكذلك لم يُسْتَخْدَم هذا التشبيه في الحديث النبويّ أيضًا.

أوّل مَنْ استخدم تعبير «الجواهر المصونة واللآلئ المكنونة» كان أبا حسن الشاذليّ، وهذا كان عنوان كتابه المشهور عن علوم الفلك والسحر، الّذي كُتِبَ في القرن الـ 13.

بالإضافة إلى ذلك، أوّل مَنْ استخدم تعبير «الجواهر المصونة واللآلئ المكنونة» كان أبا حسن الشاذليّ، وهذا كان عنوان كتابه المشهور عن علوم الفلك والسحر، الّذي كُتِبَ في القرن الـ 13. الشاذليّ بكتابه يشبّه المعلومات والأسرار القيّمة بالجواهر واللآلئ المصونة والمكنونة، ولذا؛ فإنّه لا علاقة لهذا التشبيه بالسياق الحديث لتشبيه النساء بالأحجار الكريمة تلك. ثمّ من المهمّ التنبيه إلى أنّ لفظ «المصونة» اسْتُخْدِمَ في القرون الهجريّة الستّة الأولى؛ بالأصل لوصف الجاريات وليس لوصف المسلمات الحرائر. بهذا، يمكن الادّعاء بأنّ استعارة المرأة «كالدرّة المصونة والجوهرة المكنونة» ليس لها أيّ جذور مباشرة في النصوص المقدّسة الإسلاميّة.

 

«المرأة عورة»/ «المرأة ثورة»

الاستعارة الرائجة تاريخيًّا (حتّى القرن السابق) في كتب الفقه، المتعلّقة بدور المرأة المسلمة في الحيّز العامّ، هي استعارة «المرأة عورة». العورة بتعريفها الضيّق هي أقسام الجسم الّتي لا يصلح أن تظهر في العلن، فثمّة عورة للإناث، وثمّة عورة للذكور. يمكن ادّعاء أنّ علاقة لفظ العورة وارتباطه بالمرأة والنساء كانت قد بدأت عند تناقُل الحديث الحسن الغريب "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان". والّذي فُسِّر في ما بعد على يد المتشدّدين من الفقهاء، مثل ابن تيمية، على أنّ المرأة كلّها عورة، وهي مأمورة بالتستّر والاحتجاب.بعض الفتاوى تقول إنّ الأمر بتستّر النساء ساري المفعول على أصواتهنّ أيضًا، وبعض التقاليد المتأثّرة والمتفاعلة مع هذا الإرث الفقهيّ، وصل إلى حجب أسماء النساء وسترها، عن طريق استعمال كنيات تربط النساء بأزواجهنّ أو أبنائهنّ الذكور، مثل «حرم فلان» أو «أمّ فلان» وإلخ...

استمرّ توظيف عبارة «المرأة عورة» ومشتقّاتها من مفاهيم مثل «العرض» و«الصيانة» إلى القرن الـ 20، الّذي فيه بدأت أصوات معارِضة لهذه المفاهيم تظهر، قد تكون متأثّرة ببزوغ عصر الدولة الحداثيّة الّتي تقتضي خروج النساء إلى العامّة من أجل العمل، وكذلك بتزامن مع الموجات النسويّة العالميّة الّتي حاربت - وما زالت - من أجل مطالب مثل تحرير المرأة من الظلم الأبويّ التاريخيّ لها.

قد تكون نوال السعداوي أوّل مَنْ شبّه المرأة بـ «الثورة»، في إحدى كتاباتها في مطالع التسعينات من القرن السابق؛ ردًّا بلاغيًّا مباشرًا لمقولة «المرأة عورة»؛ فغير أنّه ثمّة عامل جماليّ في السجع بين لفظ «العورة» ولفظ «الثورة»، ثمّة أيضًا تضادّ بين المعاني الّتي يحملها كلا المفهومين: إظهار العورة في العموم يُعَدّ إقحامًا للخاصّ العائب للحيّز الجماعيّ، في حين أنّ الثورة هي فِعْل تفجّر المستور والمخفيّ في الحيّز العامّ بعنف وقوّة. هذه العوامل أدّت إلى صعود وشيوع استعارة «المرأة ثورة» بين صفوف التقدّميّين أو الليبراليّين أو الإسلاميّات النسويّات وغيرهنّ، فقد تردّدت هذه الاستعارة كثيرًا في الإنتاج الأدبيّ، ولاحقًا (بعد سنة 2000)، في أروقة شبكة الإنترنت من منتديات وشبكات تواصل اجتماعيّ.

 

الحلّ البلاغيّ للمحافظين

كان واضحًا أنّ شعار «المرأة عورة» لم يَعُد ناجعًا ومُقْنِعًا، في النقاشات والسجالات المجتمعيّة عن دور المرأة في الحيّز العامّ، فقد يُدَّعى أنّ به إساءة واضحة للمرأة بوصفها أنّها كيان وجب ستره خوفًا على الناظرين له؛ فالعورة تُسْتَر ليس حماية لها بل حماية منها. وكانت حاجة مُلِحَّة عند المحافظين، أو ما يُسَمّى بـ «المجموعات الإسلاميّة السلفيّة»؛ لإيجاد حلّ بلاغيّ حديث يجابه الشعار المضادّ «المرأة ثورة»، وهذا ما حدث في نهاية سنوات الـ 90، وفي مطلع الألفيّة الجديدة عند ظهور استعارة جديدة لم تظهر قطّ في الأدبيّات العربيّة الإسلاميّة من قبل، وهي استعارة «الدرّة المصونة والجوهرة المكنونة».

لم يقصد الأبنودي أن يخوض النقاش السياسيّ عن دور المرأة آنذاك حين نظم شعره، لكن اسْتُخْدِمَ هذا التشبيه لاحقًا (1998 - 1999) على يد الصحافيّة أحلام القبيلي، في خطابها للمرأة المسلمة: "كوني درّة مكنونة وجوهرة مصونة"...

هذا التشبيه اسْتُخْدِمَ على يد الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في شعره بالعامّيّة الصعيديّة المصريّة «جوابات حراجي القطّ» في سنوات الـ 60 في القرن السابق، الّذي يبدؤه بـ "الجوهرة المصونة، والدرّة المكنونة، زوجتنا فاطنة أحمد عبد الغفّار". بالطبع، لم يقصد الأبنودي أن يخوض النقاش السياسيّ عن دور المرأة آنذاك حين نظم شعره، لكن اسْتُخْدِمَ هذا التشبيه لاحقًا (1998 - 1999) على يد الصحافيّة أحلام القبيلي، في خطابها للمرأة المسلمة: "كوني درّة مكنونة وجوهرة مصونة"، طالبةً إيّاها أن تلزم الستر والبيت والعائلة.

من الواضح أنّه ثمّة دلالات إيجابيّة في وصف المرأة بالجواهر والدرر، هذا المصدر (المشبّه به) يُعْرَف بالقيمة العالية والفخامة والغلاء، وكذلك، للدرّة أو للجوهرة كيان فردانيّ مستقلّ، وهذا على عكس «العورة». بهذا؛ يمكن الادّعاء بأنّ اعتناق شعار «المرأة دُرّة وجوهرة»، على يد المجموعات الإسلاميّة المتعدّدة، به ما قد يُعَدّ مكسبًا للمرأة ومكانتها المفاهيميّة. لكن يجب أيضًا أن نتوقّف عند لفظَي «المكنونة» و«المَصونة» لفهم الصورة كاملة. هذان اللفظان المصوغان بالوزن الصرفيّ «مفعولة» يدلّان أوّلًا على وجود عامل خارجيّ يقوم بفعل التكنين والصيانة؛ أي أنّها ليست هي المرأة الّتي تكنّن وتصون نفسها بنفسها. ثمّ إنّ لفظ «المكنونة» يعني ما خُفِيَ عن الأنظار بهدف الاحتفاظ به لنفسه وعدم مسّه من قِبَل الناظرين والطامعين.

هنا يمكن الإشارة إلى أنّ الاستعارة «المرأة درّة مكنونة» بطيّاتها أمر ما معاكس لشعار «المرأة عورة»؛ ففي الأولى (الدرّة المكنونة) ثمّة رمز لوجوب المحافظة على المرأة وحمايتها من العموم والسارقين والذئاب، مثلما نحمي ممتلكاتنا الثمينة، وفي الثانية المرأة هي العورة الّتي يجب حماية العموم منها؛ درءًا للعيب والعار.

في النهاية، ممّا لا شكّ فيه أنّ استعارة «المرأة درّة مكنونة» تخدم فعليًّا المحافظين، الّذي يشجّع على عدم خروج المرأة إلى الحيّز العامّ؛ فهي طريقة لإقناع النساء بأنّها أغلى وأعلى قيمة من أن تخرج وتُخاطِر بمسّ كينونتها المكنونة والمحفوظة والمصونة. لكن ما يشدّ الاهتمام بهذا السرد هو دور اللغة والبلاغة والأدب والشعر، في تحديد الأدوار المجتمعيّة وتصميمها، وتحديد سير السجالات السياسيّة البالغة التأثير والمحوريّة.

 


مرجعيّة

Graber, D. (1993). Political communication: Scope, progress, promise. In A. W. Finifter (Ed.), Political science: The state of the discipline II (pp. 305-332). Washington, DC: American Political Science Association.

Lakoff, G. and Mark Johnson (1980).  Metaphors we Live By. Chicago, IL: University of Chicago Press.

Miller, E. F. (1979). Metaphor and political knowledge. The American Political Science Review, 73, 155-170.
 


 

جاد قعدان​​

 

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في "جامعة تل أبيب". معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.